التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لصيام يغرس السلوك الحضاري بين الناس



الصيام يغرس السلوك الحضاري بين الناس
جريدة الاتحاد
تسامى الإنسان بأخلاقه وسلمت سلوكه من كل نقيصة وترفع عن المنكرات. إن الله سبحانه وتعالى جعل للصوم غاية ورسم له هدفا ألزم المؤمن أن يسعى لبلوغه، وهذا الهدف النبيل هو التقوى، تقوى الله تعالى، قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، 183)، ومن معاني التقوى ترسيخ القيم الفاضلة والأخلاق الكريمة وإشاعة السلوك الحضاري بين الناس. فالصوم في الظاهر كف عن شهوتي البطن والجنس وترك لملذات المأكل والمشرب، وهو أدنى مراتب الصوم، لأن الصوم الحقيقي هو صوم عن شهوة اللسان وشهوة الكذب والغيبة والنميمة واللغو، وصوم عن لؤم الطباع وعن الحقد والحسد والبغضاء والنفاق وسوء الأخلاق، إذ ليس من المعقول أن يحرّم على الصائم الأكل والشرب ويباح له ما قبح من الأقوال والأفعال، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الصِّيَامُ جُنَّةٌ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِماً فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ (أبو داود: 6/317)، ومصداق قوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ (البخاري)
فنفس المؤمن في هذا الشهر الكريم تربة صالحة لغراسة المثل العليا لتنبت أخلاقاً نبيلة فتزكو كمالاً إنسانياً. فالذين يصومون الشهر المبارك إيماناً واحتساباً هم المؤهلون للنجاح في هذه المدرسة، مدرسة التقوى والاستقامة، فإذا تسامى الإنسان بأخلاقه من كل نقيصة وترفع عن المنكرات واعتصم بالإيمان فقد هدي إلى صراط مستقيم
لذا كان من فضائل هذا الشهر المبارك أنه يهيئ المؤمنين للتزود من التقوى ويقي الصائم من المنكرات والرذائل التي يزينها الشيطان للغافلين عن ذكر الله وطاعته، قال صلى الله عليه وسلم: الصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا (النسائي)، قالت حفصة: الصيام جنة ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة (مصنف عبد الرزاق)، وذلك أن فحش القول ولغو الكلام يفسدان الصيام وينجم عنهما التباغض والتقاطع في حين أن الإسلام يدعو إلى جمع شمل المجتمع الواحد، فالصوم يضفي عليهم من الجمال الخلقي ما يجعلهم متضامنين في تعاملهم وخدمة بعضهم
والتقوى التي مقصد الصيام نور في داخل النفس يضيء لها طريق الخير، التقوى هي حب لله تعالى وحب لرسوله صلى الله عليه وسلم حباً يجعل المؤمن الصائم يقف عند الحدود التي حددها الله تعالى ويقبل بكليته على ما أمر، فالتقوى آثارها طاعة الله وتمسك بصراطه المستقيم في الحياة، فكيف يكون الصوم صوم المتقين. يكون ذلك بحفظ اللسان، وحفظه يكون بالصدق إن هو تحدث والابتعاد عن الكذب، وأي صوم لمن لعنه الله في كتابه عندما قال: "ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (آل عمران، 61)، وحفظه يكون بترك النميمة والغيبة، لقد ذكر الله في كتابه أن من يغتاب غيره ويمزق أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويتحدث عنهم بما يكرهون، قد أفطر على أخبث ما يمكن أن يتصور أن يفطر عليه صائم، يقول تعالى:" وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ" (الحجرات، 12)، فالحديث بين في أن صيام الجوارح والأدب في الأخلاق هما المقصد من فرضية الصيام، ولا عبرة من عبادة خلت من مقاصدها وأبعادها، يقول صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ دَعَا دَعْوَةَ جَاهِلِيَّةٍ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ" (المعجم الكبير للطبراني)
فعلى الصائم أن يحسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه في رمضان، باعتباره مدرسة الأخلاق الفاضلة والسلوك الحضاري الفاعل والقيم العالية والآداب الحسنة، فجاء سلوكه صلى الله عليه وسلم مطابقا لما يدعو إليه وهي صورة مشرقة بتعاليم القرآن حتى أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وصفته بوصف جامع وتعبير بليغ بقولها: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (أحمد)، وقالت: لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلا مُتَفَحِّشاً وَلا صَخَّاباً فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (الترمذي)، هذا شأن من كانت رسالته هداية الناس وإرشادهم إلى الخير والرحمة والمحبة والمعاشرة الحسنة لذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بتحسين أخلاقه وتهذيبها وأن يجنبه منكر الأخلاق ويهديه إلى أحسنها بقوله: اَللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي (صحيح ابن حبان)
من هنا نوه الإسلام بالخلق الحسن، ودعا إلى تربية المسلمين عليه وتنميته في نفوسهم، وأمر القرآن الكريم بمحاسن الأخلاق عندما قال سبحانه وتعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) "فصلت،34"
وبين صلى الله عليه وسلم فضل محاسن الأخلاق فقال: مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ (الترمذي)، وسئل صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟، قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ (الطبراني)، وسئل: عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْـجَنَّةَ فَقَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ (الترمذي)، وقال أيضاً: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الآخِرَةِ، وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرَجَةٍ فِي جَهَنَّمَ (الطبراني)
فليكن رمضان شهر الصيام والأخلاق، مناسبة لمزيد التمسك بالقيم الدينية للارتقاء بأخلاقنا وتحسين علاقاتنا حتى لا ينطبق علينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْـجُوعُ (ابن ماجة)، ولنقتد برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في أخلاقه الذي أدبه ربه بأخلاق القرآن، فأحسن تأديبه.
سالم بن نصيرة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنواع القراءة وطرق تدريسها

تنقسم طرق القراءة بشكل عام   إلى قسمين: 1-القراءة الصامتة : أن يقرأ القارئ دون إحداث أي صوت ، حتى الهمس ، وهذا أن يقرأ بفكره وعينيه ؛ مركزاً على الفهم الدقيق لما يقرأه ، ومن أهم أهدافها التدريب على ( السرعة والفهم ) 2 -القراءة الجهرية : أن يقرأ المتعلم بصوت مسموع وبنطق واضح صحيح ، وذلك لإكساب الطفل صحة النطق وسلامة الكلمات وإخراج الحروف من مخارجها والفهم وتمثيل المعنى ولتخطي مواقف الخجل والخوف من المواجهة ولكشف عيوب النطق وعلاجها القراءة الصامتة في الصفوف الأولية : هي أحد أهم المهارات التي يجب تدريب تلميذ الصف الأول عليها ولكننا نغفل كثيراً عن أهمية التدرج والممارسة لأي مهارة نريد أن نعلِّمها ، وللقراءة الصامتة عدة صور منها :   2- ربط الصورة بالكلمة المناسبة   3- قراءة بطاقات الكلمات والجمل ....الخ · 1- قراءة محتوى الصورة . القراءة النموذجية في الصفوف الأولية والأساسية : يظل المعلم دائماً في موقف الموجه لتلاميذه وهذا أمر هام خصوصاً في الصفوف الأولية ؛ والقراءة النموذجية سوف يحسن التلاميذ الإنصات لها والانتباه إذا ما جذبهم المعلم وبأسلوب مشوق لها و...

شرح ونماذج للأهداف السلوكية مجالات ومستويات

شروح ونماذج للأهداف السلوكية ومستوياتها   أولاً : الأهداف المعرفية ( Cognitive objectives ): هي مقاصد و أغراض تعليمية تتناول نمو وتطور الجانب المعرفي العقلي لعملية التعلم عند المتعلم , وتتحقق هذه الأهداف غالباً بنهاية الدرس أو الوحدة التدريسية ( UNIT ) هرم بلوم عام 1956 م: 1- مستوى التذكر )   The level of recall ): تذكر أو استدعاء ما تم تعلمه التلميذ سابقا . مثل تذكر حروف الهجاء ويتطلب هذا المستوى استحضار العقل وشحذ الذهن وتدريب الذاكرة على استرجاع المعلومات المطلوبة . وهو أيضا :   القدرة على تذكر واسترجاع وتكرار المعلومات دون تغيير يذكر . ويتضمن هذا المستوى الجوانب المعرفية التالية : - معرفة الحقائق المحددة. مثل معرفة أحداث محددة ، تواريخ معينة ، أشخاص ، خصائص - معرفة المصطلحات الفنية . مثل معرفة مدلولات الرموز اللفظية وغير اللفظية . - معرفة الاصطلاحات . مثل معرفة الاصطلاحات المتعارف عليها للتعامل مع الظواهر أو المعارف . - معرفة الاتجاهات والتسلسلات . مثل معرفة الاتجاهات الإسلامية في السنوات الأخيرة بالغرب . - معرفة التصنيفات والفئات -معرفة المع...

(الأنشطة الصفية)

( الأنشطة الصفية) منتدى شباب الأردن اولا : تعريف الانشطة الصفية : الانشطة الصفية : هي ممارسة عملية يقوم بها المعلم بمفرده او مع زملائه لمدة زمنية محددة داخل غرفة الصف لتحقيق هدف تربوي مرتبط بالمنهج وذلك تحت اشراف المعلم وتتمثل هذه الانشطة في : تمثيل الادوار ، حل المشكلات ، الاسئلة والاجوبة ، المشاهدة والاستماع ، التلخيصات ، الاستنتاج ، المناقشة والحوار الهدف العام من الانشطة الصفية : اكساب الطلاب الحد اللازم من الخبرات التطبيقية الضرورية لتحقيق اهداف المنهج ثانيا : اهمية الانشطة الصفية : نلاحظ في واقعنا التربوي اشكاليات عديدة تدفعنا لتفعيل الانشطة والاستفادة منها ، ومن هذه الاشكاليات : 1- فقر المناهج الدراسية في تلبية حاجات وميول الطلبة وتوسيع معارفهم 2- عجز الطلبة عن التعلم الذاتي ومعرفة مصادر المعرفة وطرق الحصول عليها والاتكال على المعلم 3- ملل الطلاب من المعلم في التزامه بأساليب غير متجددة في التدريس 4- سلبية الطلاب في عدم مشاركتهم في الحصة واكتفاؤه بالتلقي دون المشاركة في بناء المعرفة ما هو حل هذه الاشكاليات ولهذا فاننا بحاجة الى ازالة هذه الاشكاليات...